عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية
( الجزء الثالث )
شروط الصّلح :
للصّلح شروط يلزم تحقّقها لوجوده ، هي خارجة عن ماهيّته ، منها ما يرجع إلى الصّيغة ، ومنها ما يرجع إلى العاقدين ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عنه ، وهو الشّيء المتنازع فيه ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عليه ، وهو بدل الصّلح .
وبيان ذلك فيما يأتي :
الشّروط المتعلّقة بالصّيغة :
المراد بالصّيغة : الإيجاب والقبول الدّالّين على التّراضي . مثل أن يقول المدّعى عليه: صالحتك من كذا على كذا ، أو من دعواك كذا على كذا ، ويقول الآخر : قبلت ، أو رضيت أو ما يدلّ على قبوله ورضاه . فإذا وجد الإيجاب والقبول فقد تمّ الصّلح .
هذا ، ولم يتعرّض فقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في باب الصّلح لبيان الشّروط المتعلّقة بصيغته ؛ نظراً لاعتبارهم عقد الصّلح غير قائم بذاته ، بل تابعاً لأقرب العقود به في الشّرائط والأحكام ، بحيث يعدّ بيعاً إذا كان مبادلة مال بمال ، وهبةً إذا كان على بعض العين المدّعاة، وإبراءً إذا كان على بعض الدّين المدّعى ، اكتفاءً منهم بذكر ما يتعلّق بالصّيغة من شروط وأحكام في تلك العقود الّتي يلحق بها الصّلح ، بحسب محلّه وما تصالحا عليه .
أمّا الحنفيّة : فقد تكلّموا على صيغة الصّلح بصورة مستقلّة في بابه ، وأتوا على ذكر بعض شروطها وأحكامها ، وسكتوا عن البعض الآخر ، اكتفاءً بما أوردوه من تفصيلات تتعلّق بالصّيغة في أبواب البيع والإجارة والهبة والإبراء ، الّتي يأخذ الصّلح أحكامها بحسب أحواله وصوره .
أمّا كلامهم في باب الصّلح عن صيغته وشروطها : فهو أنّه يشترط في الصّلح حصول الإيجاب من المدّعي على كلّ حال ، سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أم لم يكن ، ولذلك لا يصحّ الصّلح بدون إيجاب مطلقاً . أمّا القبول ، فيشترط في كلّ صلح يتضمّن المبادلة بعد الإيجاب .
ثمّ قالوا : تستعمل صيغة الماضي في الإيجاب والقبول ، ولا ينعقد الصّلح بصيغة الأمر ، وعلى ذلك لو قال المدّعي للمدّعى عليه : صالحني على الدّار الّتي تدّعيها بخمسمائة درهم ، فلا ينعقد الصّلح بقول المدّعى عليه : صالحت ؛ لأنّ طرف الإيجاب كان عبارةً عن طلب الصّلح ، وهو غير صالح للإيجاب ، فقول الطّرف الآخر : قبلت ، لا يقوم مقام الإيجاب .
أمّا إذا قال المدّعي ثانياً : قبلت . ففي تلك الحالة ينعقد الصّلح .
وبناءً على ما تقدّم :
إذا كان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين : كالعقارات ، والأراضي ، وعروض التّجارة ، ونحوها فيشترط القبول بعد الإيجاب لصحّة الصّلح ؛ لأنّ الصّلح في هذه الحالة لا يكون إسقاطاً حتّى يتمّ بإرادة المسقط وحدها ، وسبب عدم كونه إسقاطاً مبنيّ على عدم جريان الإسقاط في الأعيان .
وإذا كان الصّلح واقعاً على جنس آخر ، فيشترط القبول - أيضاً - سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أو كان ممّا لا يتعيّن بالتّعيين : كالنّقدين ، وما في حكمهما .
وسبب اشتراط القبول في هاتين المسألتين : أنّ الصّلح فيهما مبادلة ، وفي المبادلة يجب القبول ، ولا يصحّ العقد بدونه .
أمّا الصّلح الّذي ينعقد بالإيجاب وحده ، فهو الّذي يتضمّن إسقاط بعض الحقوق ، فيكتفى فيه بالإيجاب ، ولا يشترط القبول .
وعلى ذلك : فإذا وقع الصّلح على بعض الدّين الثّابت في الذّمّة ، بمعنى أن يكون كلّ من المصالح عنه والمصالح به من النّقدين ، وهما لا يتعيّنان بالتّعيين ، فهاهنا ينعقد الصّلح بمجرّد إيجاب الدّائن ، ولا يشترط قبول المدين ؛ لأنّ هذا الصّلح عبارة عن إسقاط بعض الحقّ ، والإسقاط لا يتوقّف على القبول ، بل يتمّ بمجرّد إيجاب المسقط .
فمثلاً : لو قال الدّائن للمدين : صالحتك على ما في ذمّتك لي من الخمسمائة دينار على مائتي دينار فينعقد الصّلح بمجرّد الإيجاب ، ولا يشترط قبول المدين ، ويلزم الصّلح ما لم يردّه الدّين . إلاّ أنّه يشترط في ذلك أن يكون الموجب المدّعي ؛ لأنّه لو كان المدّعى عليه هو الموجب ، فيشترط قبول المدّعي ؛ سواء أكان الصّلح عمّا يتعيّن بالتّعيين ، أم عمّا لا يتعيّن بالتّعيين ، وذلك لأنّ هذا الصّلح إمّا أن يكون إسقاطاً ، فيجب أن يكون المسقط المدّعي أو الدّائن ، إذ لا يمكن سقوط حقّه بدون قبوله ورضاه ، وإمّا أن يكون معاوضةً ، وفي المعاوضة يشترط وجود الإيجاب والقبول معاً . أمّا في الصّلح عمّا لا يتعيّن بالتّعيين الّذي يقع على عين الجنس ، فيقوم طلب المدّعى عليه الصّلح مقام القبول .
الصّلح بالتّعاطي :
ذهب الحنفيّة إلى انعقاد الصّلح بالتّعاطي إذا كانت قرائن الحال دالّةً على تراضيهما به، كما لو أعطى المدّعى عليه مالاً للمدّعي لا يحقّ له أخذه وقبض المدّعي ذلك المال . وبيان ذلك : أنّه لو ادّعى شخص على آخر بألف درهم ، وأنكر المدّعى عليه الدّين ، وأعطى المدّعي شاةً وقبضها المدّعي منه فإنّه ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وليس للمدّعي بعد ذلك الادّعاء بالألف درهم ، كما أنّه ليس للمدّعى عليه استرداد تلك الشّاة .
أمّا إذا أعطى المدّعى عليه للمدّعي بعض المال الّذي كان للمدّعي حقّ أخذه وقبضه المدّعي، ولم يجر بينهما كلام يدلّ على الصّلح فلا ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وللمدّعي طلب باقي الدّين؛ لأنّ أخذ المدّعي بعضاً من المال الّذي له حقّ أخذه ، يحتمل أنّه قصد به استيفاء بعض حقّه على أن يأخذ البعض الباقي بعد ذلك ، كما أنّه يحتمل أنّه اكتفى بالمقدار الّذي أخذه وعدل عن المطالبة بالباقي ، والحقّ لا يسقط بالشّكّ .
الشّروط المتعلّقة بالعاقدين :
وهي على ثلاثة أقسام : منها ما يرجع إلى الأهليّة ، ومنها ما يرجع إلى الولاية ، ومنها ما يرجع للتّراضي .
الشّروط المتعلّقة بالمصالح عنه :
المصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه ، وهو نوعان : حقّ اللّه ، وحقّ العبد .
أمّا حقّ اللّه : فلا خلاف بين الفقهاء في عدم صحّة الصّلح عنه . وعلى ذلك ، فلا يصحّ الصّلح عن حدّ الزّنا والسّرقة وشرب الخمر ، بأن صالح زانياً أو سارقاً من غيره أو شارب خمر على مال على أن لا يرفعه إلى وليّ الأمر ؛ لأنّه حقّ اللّه تعالى فلا يجوز ، ويقع باطلاً ؛ لأنّ المصالح بالصّلح متصرّف في حقّ نفسه ، إمّا باستيفاء كلّ حقّه ، أو باستيفاء البعض وإسقاط الباقي ، أو بالمعاوضة ، وكلّ ذلك لا يجوز في غير حقّه .
وكذا إذا صالح من حدّ القذف ، بأن قذف رجلاً ، فصالحه على مال على أن يعفو عنه ؛ لأنّه وإن كان للعبد فيه حقّ ، فالمغلّب فيه حقّ اللّه تعالى ، والمغلوب ملحق بالعدم شرعاً ، فكان في حكم الحقوق المتمحّضة حقّاً للّه عزّ وجلّ ، وهي لا تحتمل الصّلح ، فكذلك ما كان في حكمها .
وكذلك لو صالح شاهداً يريد أن يشهد عليه على مال ليكتم شهادته فهو باطل ؛ لأنّ الشّاهد في إقامة الشّهادة محتسب حقّاً للّه عزّ وجلّ لقوله سبحانه : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } والصّلح عن حقوق اللّه باطل .
وإذا بطل الصّلح في حقوق اللّه تعالى وجب عليه ردّ ما أخذ ؛ لأنّه أخذه بغير حقّ ، ولا يحلّ لأحد أخذ مال أحد إلاّ بسبب شرعيّ .
وأمّا حقّ العبد : فهو الّذي يصحّ الصّلح عنه عند تحقّق شروطه الشّرعيّة ، وشروطه عند الفقهاء ثلاثة :
أحدها : أن يكون المصالح عنه حقّاً ثابتاً للمصالح في المحلّ :
وعلى ذلك : فما لا يكون حقّاً له ، أو لا يكون حقّاً ثابتاً له في المحلّ لا يجوز الصّلح عنه ، حتّى لو أنّ امرأةً طلّقها زوجها ادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها ، وجحد الرّجل، فصالحت عن النّسب على شيء فالصّلح باطل ؛ لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ لا حقّها ، فلا تملك الاعتياض عن حقّ غيرها ؛ ولأنّ الصّلح إمّا إسقاط أو معاوضة ، والنّسب لا يحتملهما. وكذا لو صالح الشّفيع من الشّفعة الّتي وجبت له على شيء ، على أن يسلّم الدّار للمشتري فالصّلح باطل ؛ لأنّه لا حقّ للشّفيع في المحلّ ، إنّما الثّابت له حقّ التّملّك ، وهو ليس لمعنىً في المحلّ ، بل هو عبارة عن الولاية ، وأنّها صفة الوالي فلا يحتمل الصّلح عنه ، وهو قول الجمهور - خلافاً للمالكيّة - فيجوز عندهم الصّلح عن الشّفعة .
وكذلك لو صالح الكفيل بالنّفس المكفول له على مال ، على أن يبرّئه من الكفالة فالصّلح باطل ؛ لأنّ الثّابت للطّالب قبل الكفيل بالنّفس حقّ المطالبة بتسليم نفس المكفول بنفسه ، وذلك عبارة عن ولاية المطالبة ، وأنّها صفة الوالي فلا يجوز الصّلح عنها كالشّفعة .
أمّا لو ادّعى على رجل مالاً وأنكر المدّعى عليه ، ولا بيّنة للمدّعي ، فطلب منه اليمين فصالح عن اليمين على أن لا يستحلفه جاز الصّلح وبرئ من اليمين ، بحيث لا يجوز للمدّعي أن يعود إلى استحلافه . وكذا لو قال المدّعى عليه : صالحتك من اليمين الّتي وجبت لك عليّ. أو قال : افتديت منك يمينك بكذا وكذا صحّ الصّلح ؛ لأنّ هذا صلح عن حقّ ثابت للمدّعي ؛ لأنّ اليمين حقّ للمدّعي قبل المدّعى عليه ، وهو ثابت في المحلّ - وهو الملك في المدّعي في زعمه - فكان الصّلح في جانب المدّعي عن حقّ ثابت في المحلّ ، وهو المدّعي، وفي جانب المدّعى عليه بذل المال لإسقاط الخصومة والافتداء عن اليمين . قاله الكاسانيّ . ونصّ الحنفيّة والحنابلة : على أنّه لو ادّعى رجل على المرأة نكاحاً فحجّته ، وصالحته على مال بذلته حتّى يترك الدّعوى جاز هذا الصّلح ؛ لأنّ النّكاح حقّ ثابت في جانب المدّعي حسب زعمه ، فكان الصّلح على حقّ ثابت له ، والدّافع يقطع به الخصومة عن نفسه ، فكان في معنى الخلع .
والثّاني : أن يكون ممّا يصحّ الاعتياض عنه :
أي : أن يكون ممّا يجوز أخذ العوض عنه ، سواء أكان ممّا يجوز